الحكامة العمومية بين السياسة و الادارة

"الحكامة العمومية بين الادارة والسياسة"

الدرس الافتتاحي الأول:
من إلقاء الأستاذ د. حسن العرافي


"في إطار أنشطته، نظم منتدى الباحثين في العلوم الإدارية والمالية درسا افتتاحيا من إلقاء الأستاذ د. حسن العرافي في العلوم الادارية والمالية بمقر كلية الحقوق-اكدال- بالرباط، يومه الجمعة 23 نونبر من عام 2012، على الساعة الثالثة و النصف بعد الزوال.





وهكذا تفضل الأستاذ "حسن العرفي" بافتتاح محاضرته حول طبيعة تدبير الشأن العمومي في إطار العلاقة القائمة بين السياسة و الإدارة، حيث أكد في بداية العرض على ما يكتسيه هذا الموضوع من حساسية كبيرة من الناحية النظرية و الفكرية، ومن الناحية العملية بسبب ما يثيره من تبعات على مستوى الواقع العملي.
فقد انطلق من فكرة أن كل المحاولات التي سعت إلى الفصل بين علم السياسة وعلم الادراة باءت بالفشل. باعتبارها كانت مجرد إسقاطات، غير مُقْنعة، لمبدأ فصل السلط الذي نادى به مونتيسكيو.
كما أشار من جهة أخرى، إلى أنه رغم العلاقة الوطيدة بين علم الادارة و علم السياسة إلا أن هناك اختلافات جوهرية بينهما، باعتبار أن علم الادارة يهتم بكيفيات التدبير العمومي في حين يرتكز علم السياسة على فكرة مفادها أنه "فن التعامل مع الممكن". و بالتالي فمنهجية التعامل مع المواضيع السياسية تختلف عنها في المواضيع الادارية بتقاطع منطقي يجعل علم السياسة يعتمد على"عنصر الملاءمة" مقابل ارتكاز علم الادارة على مبدأ العقلانية الإدارية".
 و قد أثار مفهوم الحكامة نقاشات متنوعة منذ زمن الخمسينات-حسب الاستاذ حسن العرافي-، في كتابات متنوعة المشارب سواء من خلال كتابات "كروزي ألبير"، أو كتابات أجنبية ككتاب الاستاذ الامريكي"عزرا سليمان" الذي تناول فيه موضوع "تفكيك الدولة الديمقراطية". 
  وأهم ما ميز رؤية الدكتور "حسن العرفي" لموضوع الحكامة و علاقة السياسي بالإداري معالجته القائمة على تصور براغماتي للموضوع، من خلال التساؤل عن جملة الأطروحات الممكن الإنطلاق منها، لتحليل معادلة العلاقة بين السياسة و الإدارة. والتي ركزها في ثلاث أطروحات أساسية:
1-                        الأطروحة القائمة على مبدأ تبعية الادارة للسياسة ؛
2 -  الأطروحة القائمة على مبدأ الفصل المطلق بين الادارة و السياسة ؛
3 -    الأطروحة القائمة على مبدأ التكامل بين الادارة و السياسة.
و تتميز الأطروحات الثلاث بكون كل واحدة منها تطرح إشكالات متعددة و متنوعة على المستويين النظري والعملي.
     فالأطروحة الأولى القائلة بوجود تبعية الادارة لما هو سياسي يفقد هذه الأخيرة خصائصها و مكانتها من منظور علم الإدارة، على اعتبار أن الموظف الذي يوضع رهن إشارة المواطن؛ لخدمته؛ لا يتمكن من ممارسة مهامه  بحرية كافية، لأن مجرد إحساسه بتبعيته للرئيس الإداري الأعلى بالقطاع يفقده «الاستقرار النفسي»، ويزداد الأمر حدة على مستوى الجماعات الترابية على حد تأكيد الأستاذ "حسن العرافي"، وقد عبر عن هذا التصور  في مفهوم «مَوْظفة الدولة» الذي يؤدي بدوره إلى مفهوم «تسييس الإدارة».

  أما الأطروحة الثانية و القائلة "بالفصل المطلق بين الإدارة و السياسة"، مصدرها الفصل بين السلطات الذي نادى به "مونتسكيو" في القرن الثامن عشر (عصر النهضة الأوربية). ويقوم تبرير هذه الأطروحة على أن الادارة عندما يصبح لها توجه سياسي فإنه يؤثر سلبا على حياديتها، ومن تم يتغير توجهها بتغير السياسي القائم على إدارة أمورها. و نتيجة لذلك تظهر التبعية وويلات للإدارة ذهب ضحيتها المواطن، حسب تصور الأستاذ "حسن العرفي".
وبالنسبة للأطروحة الثالثة  القائمة على أساس "التكامل بين الادارة و السياسة"، فتنطلق من نظرية نفي وجود تبعية مطلقة ولا فصل مطلق بين الإدارة و السياسة، وأساس ذلك أن الإدارة لا يمكن تصورها بمعزل عن محيطها و بيئتها. ومن ثم طرح إشكالية حقيقية حول مدى و إمكانية تصور تركيبة سحرية لتحقيق توازن بين الأطروحتين، لأن تأثير السياسة على الإدارة له آثار سلبية على دواليب الدولة، وساق المحاضر في ذلك نموذج التجربة الفرنسية ما قبل الثورة الفرنسية، التي عرفت خلق نظام ريعي في بيع المناصب الإدارية، مما يؤكد أن هذه التبعية المطلقة تؤدي حتما إلى الانتقال من مفهوم الفساد السياسي إلى مفهوم الفساد الاداري. ففي ظل التبعية الإدارية لما هو سياسي، يفقد الموظف صفته الحقيقية ليصبح-فقط- أداة لتنفيذ الإرادة السياسية.
كما أحال "الأستاذ حسن العرافي" إلى واقع الجماعات الترابية في المغرب كنموذج حي لفهم مدى هيمنة السياسي على الإداري، حيث يظهر بجلاء أن رؤساء المجالس الجماعية "للأسف" يضعون تصورات وقراءات سياسية للهياكل الإدارية للجماعات التي يشرفون على تدبير شؤونها، مما يجعل اللمسات السياسية تطغى أكثر من سواها على القرارات الإدارية المحلية، التي ينبغي أن تنبني بالضرورة على معايير واقعية، وكذلك تسخير ميزانياتها التي هي عبارة عن أموال عمومية لخدمة مصالح  سياسية و التضحية بمعايير الجودة و المردودية لصالح الاعتبارات الحزبية و الإنتخابوية. فتكون نتيجة ذلك ذات آثار سلبية حتما، لأنه يتم الانتقال من مفهوم الفساد السياسي إلى مفهوم الفساد الإداري الذي لا يمكن تصور نمو الحكامة تحت وطأته. و لعل السياسات العمومية المختلفة الرامية إلى تخليق  الحياة العامة هي نتيجة تلك العلاقة المتوترة ما بين الإدارة و السياسة بل وهيمنة هذه الاخيرة على الأولى.
     ومن مظاهر "النظرية الإنقسامية"، التي ترتكز على هيمنة التوجهات الحزبية و الانتمائية، أورد لنا "الأستاذ حسن العرافي " مثالا على الولوج لبعض المناصب في بلادنا، خاصة في بعض المؤسسات العمومية بحد ذاتها، التي تعتمد ميزا انتمائويا عرقيا واضحا (مثال وزارة البريد سابقا)، مما يضرب في العمق المبدأ الدستوري القائم على مساواة الجميع أمام تقلد المناصب بالإدارات العمومية. 
أما الظاهرة النقابية في بلادنا، فيضيف "الاستاذ العرافي"، بأنها لا تقل أهمية نموذجية في هذا السياق، فمعظم النقابات الموجودة حاليا في المغرب ذات امتدادات سياسية و حزبية، حيث يتم احتضانها من لدن الأحزاب  التي تبدو متعاطفة مع الملف المطلبي للشغيلة، لتصبح هذه  النقابات مرتعا خصبا لنمو اديولوجية تلك الأحزاب. وبالتالي تطغى كل الاعتبارات الضاربة في العمق "مبدأ الحيادية الإدارية أو "الحيادية الوظيفية" إن صح القول.
 كما أضاف بالنسبة للأطروحة الثانية القائلة بالفصل التام بين الإدارة و السياسة، أنها مُعابة من وجهة نظر أنها لا تعتمد فصلا دقيقا ومنطقيا بين المكونين، وأنها لا تأخذ بعين الاعتبار  تأثير القوى الاجتماعية داخل البلد. وخلص إلى أنه في جميع الأحوال والحالات لا يمكن تصور حكومة بدون آلة تنفيذية.
   وأشار الأستاذ العرفي إلى أهمية الدستور المغربي الجديد في تكريس أطروحة التكامل بين السياسة و الإدارة حينما جعل الادارة رهن إشارة الحكومة (الفصل69  من الدستور)، وتطرقه في نفس الوقت لمفهوم "التدبير الحر"(الفصل 149 من الدستور). كما أدلى في هذا النطاق، على سبيل الاستفهام الاستنكاري، بأمثلة عن بعض القطاعات الحكومية التي ترتبط بأدائها الإداري الصرف رغم أنها جزء لا يتجزأ من الحكومة (الامانة العامة للحكومة، المندوبية السامية للتخطيط ، والي بنك المغرب وغيرها). ولتحقيق هذه الغاية (التناغم بين الادارة والسياسة) طرح الاستاذ العرفي مجموعة من المتطلبات، يمكن إيراد البعض منها كما يلي:
       *الإيمان بأن الموظف له حقوق سياسية و نقابية ؛
       *عدم القيام بتحريات في الآراء السياسية فيما يتعلق بالتوظيفات الادارية؛
       * استبعاد الخلفيات السياسية في التعامل مع الموظفين و الأطر داخل الإدارة؛
       * يجب عدم هدر حقوق الموظف، لأن هيبة الدولة من هيبة الإدارة و هيبة الادارة من هيبة الموظف.
التعقيبات:
وبعد انهاء الاستاذ"حسن العرفي" لمحاضرته، فُـتح باب التعقيبات للحضور، التي تركزت حول النقط التالية:
-      تغييب مفهوم الحكامة في العرض .
-      هل الحكامة تعني التضحية بالديمقراطية؟
-      ماهية الميكانيزمات التي يمكن تفعيلها لتوطيد العلاقة بين السياسي و الاداري.
-      كيفية التوازن بين رغبة السياسي ورغبة الاداري.
-      هل مدخل الايدولوجيا يعتبر مدخلا آخر لقراءة مفهوم الحكامة؟
-      مدى اعتبار الحكامة موجة جديدة لليبرالية.
-      التساؤل عن معايير تقييم الحكامة العمومية.
-      موقع القضاء من اختلال العلاقة بين السياسة و الادارة.
-      أهمية المدخل الثقافي والاقتصادي في هذا الإطار.
رد الأستاذ على التعقيبات:
جاءت أجوبة الأستاذ " د. حسن العرافي" بشكل إجمالي على أسئلة الحضور من خلال تأكيده على تجاهله المتعمد لمصطلح الحكامة. و قد اعتبر أن منبت هذا المفهوم نابع من القطاع الخاص الذي وضع تصورا لنظام خال من المساطر و الإجراءات فتم استيعاب مفهوم « la bonne governance » ،الذي تم تصريفه في تقارير عديدة، خاصة من لدن المنظمات الدولية.
 كما اعتبر الحكامة كمرادف لمفهوم "الحكم الرشيد"، و هو مفهوم يتجاوز عملية التدبير إلى روح القيادة في التدبير عبر الاشتغال في انسجام  وتناغم بين المكونين الاداري و السياسي. و أن العبرة ليست بمدى أفضلية السياسي أو الادراي بل العبرة بمن يلتزم بالفعالية، السياسي أم التقنوقراطي؟ وفي نفس الوقت نوه الاستاذ "حسن العرافي" بأهمية التقنوقراطيين داخل دواليب الإدارة، فالبرلمان مثلا؛ كجهاز تشريعي يجب أن يتضمن خبراء لصياغة النصوص القانونية.
     و من جهة أخرى، أكد د."حسن العرافي" على البعد الاقتصادي للحكامة وعلى اختلافها من واقع اقتصادي إلى آخر. وعلى أنها لم تعد في الوقت الراهن تطرح إشكالا معرفيا البتة.
      وهكذا تمت مقاربة الموضوع من لدن "د. حسن العرفي" من زاوية تحليلية علمية وأكاديمية، للوقوف عند الاختلالات التي تمس العلاقة بين السياسة والإدارة ، وحث على استعمال المنهج العلمي في الابحاث العلمية والاكاديمية.
      وخلص في أجوبته إلى عبارة أساسية مفادها أنه "ينبغي الإيمان بدولة المؤسسات و ليس بدولة الأشخاص". ولعل هذا هو مضمون التركيبة المتوازنة و الفعالة لعلاقة السياسي بالإداري".

هدى وحتاش  - مقررة النشاط

رابط المنتدى على الفايسبوك:
http://www.facebook.com/montadaagdal?ref=hl

تعليقات